مسحت رأس الصبى المكفن برداء
أمه .. دلكت جبهته بلطف ثم انزلقت أناملها مع الذراع اليمنى حتى وصلت إلى الرسغ فى
حين جلست سدينا وأختها مريم عند قدمى الطفل تحدقان بالعجوز فى صمت .
وضعت مريم قصعة الـ(( رز الجارى
)) أمام النسوة .. الأخريات انصرفن إلى بيوتهن عند المغرب .. فى هذا الوقت كان
القمر المستدير يرتفع من خلف الرابية الجنوبية المحتضنة للحى الصفيحى .. تقرفصن
حول القصعة فيما تحلق الأولاد الثلاثة حول قصعتهم الصغيرة .
من عينى سدينا أطل البلل
محتشماً .. من مقلتى مريم وثب قلقٌ وانشغال على الولد الذى رفض تناول الطعام :
-
وسعن بالكن يا خيّاتى .. العيّل
كويس ما فيه لا شى .
هتفت العجوز مرضية .. مسحت سدينا عينيها غير أن اختها بدأت تنشج قبل
أن ترفع صوتها ببكائية طويلة وهى تضع المحرمة على وجهها .
رنت الحاجة إلى الأولاد الذين كانوا يحدقون بخالتهم وقد امتلأت
عيونهم بأسئلة كبيرة .. فقط نجية كانت تمضغ لقمتها وتتمايل من فرط النعاس .
-
خذيهم إلى المربوعة كيلا يروا
هبال الكبار !! .
أمرت العجوز مريم التى كانت تنظر بعينين مغرورقتين إلى خالتها وهى
تعزف ألحان البكاء المر .
خالتها مريم كانت طيبة جداً رغم أنها سريعة الغضب والإنفعال والزعل
.. كانت بئراً تفيض حناناً وعاطفة .. قالت سدينا محاولة التخفيف عن اختها :
-
نصيب .. كل شى نصيب .
-
أى والله .. (( ردت الحاجة
مرضية )) .. طيحة هالولد نصيب .. ولقيمة هالرز اللى كليناها ولا نعلموا منين جاية
نصيب .................
لثمت سدينا دمعة انزلقت من عينها بينما ما زالت أختها تصارع العبرات
.. أتت الفتاة بعروق من ربطة النعناع المعلقة بالمطبخ .. لم تنتبه العجوز لتلك
الدمعة المنزلقة من عين سدينا .. واصلت :
-
هيه .. ما أبشع دنيا المرأة
حينما تخلو من رجل .. وما أقسى ما سيعانيه هؤلاء الصغار .. الولد إذا انفصل والداه
صار (( قزّون )) .
برقت عينا سعد وهو يرفع رأسه نحو العجوز .. بحلقت فى وجهه طويلاً ..
كان ضوء الفنار ضعيفاً .. قربت وجهها منه فرأت البريق يشع من مقلتيه .. ضحكت وهى
تقرصه بلطف وتقول :
-
كشفه لك وجه .. أنظر عيونه تقول
عيون سراق !.
تناولت كوب الشاى المنعنع من يد الفتاة .. مدته لمريم ثم تناولت
الطاسة الأخرى وشرعت ترشفها بتلذذٍ فانفتح صندوق ذكرياتها وبدأ لسانها يروى حكاية
زواجها من والد عمر .. حينذاك طرق الباب .. فتحت مريم .. كان الطارق عمر .. سلم
عليها ودخل مبتسماً وهو يقول :
-
أنت هنا يا حاجة ؟ .. إنشغلنا
عليك .
-
ما عندى وين نريح .. عدى توّا
نجى على مهلى .
تنهدت وهى تشيعه .. إستدركت :
-
حتى عمر راقد ريح .. بخته عطيب
.. المرأة الأولى كانت بائراً والثانية لم يجد وفاقاً معها .. هيه .. لقد ذهب إلى
أهلها أول أمس .. لم يعد راغباً بها .. يريد أن يطلقها ويرجع أم الولدين .
-
والله قضا أهون من قضا .
ردت سدينا فأمنت على كلامها اختها مريم فيما نهضت الحاجة وهى تودعهن
قائلة :
-
نمشى نمشى الليل راح .
إرسال تعليق