هذه قراءة قد تكون متأنية فى قصة الـ((
هاوية )) للكاتب أو الأديب : الصديق بودوارة .. واسمحوا لى فى البدء أن أسجل
اعتراضى على تسمية الصديق بالقاص .. لأننى كمتلقى سأستنتج تلقائياً وبدون بذل أى
مجهود أن هذا الشخص الذى دُثِّر بلقب قاص إنما يكتب القصة القصيرة دون سواها ..
ونحن نعلم أن الصديق مثلاً يكتب إلى جانب القصة المقالة والرواية والخاطرة .
وعلى ذكر الخاطرة .. أنا أعتقد أن الصديق
قد ارتكب خطأً عندما كنّى مجموعته (( البحث عن السيدة ج )) كتابةً بالشعر ..
ولفظاً فى بعض المقابلات بالنصوص ..
· فالحالة
الأولى لا يمكن قبولها لأن المجموعة ليست بالمجموعة الشعرية .. وهذا ربما سيقودنا
إلى طرح سؤالٍ كبير محتواه متسعٌ جداً ويتطلب تخصيص مساءٍ كاملٍ لإثارته وهو : ((
أزمة الشعر )) دون الخوض فى هذا المقام فى أية تفاصيل .
· أما
الحالة الثانية فهى كذلك غير مقبولة لأن النص تسميةٌ عامةٌ .. واسعة .. غير قابلةٍ
لآداء المعنى التام .. فعندما نقول نص فإن هذا النص غير محدد الجنس .. فهو قد يكون
قصةً أو مقالةً أو شعراً أو خاطرة .. ولست أدرى إن كان الصديق قد
تعمد ذلك ليترك للمتلقى اختيار التسمية الدقيقة وفقاً لما تفضى إليه قراءاته للمجموعة
ككل ..؟.. أم أنه هو ذاته لم يك بقادرٍ على تحديد الجنس الصريح لتلك النصوص ..؟!..
غير أنه بالنتيجة قد حيّر القارىء فى هذه النقطة بالذات .
وعلى
ما تقدم فإننا ينبغى أن نسحب بهدوء لقب قاص لندثره بلقب كاتبٍ أو أديب .. فهما
أكثر جمعاً وشمولية .. تماماً ككلمة نص الجامعة والشاملة .
...
عودة إلى قصة الهاوية .. والتى جاءت أيضاً ضمن المجموعة الثانية للأديب الصديق
بودوارة وهى مجموعة (( آلهة الأعذار )) الصادرة عن دار البيان عام 2003 .
القارىء
لهذه المجموعة سيشعر أنها جزءٌ من سيرة المؤلف .. وإذا ما نظرنا للموضوع نجده
عاطفياً يدور حول النصف الأخر فينا .. النصف المفقود حتى العثور .. وبالعثور عليه
وبوجوده لابد أن تبدأ المرحلة الحقيقية من حياة أى منا .. المرحلة المتخمة بالشقاء
والعذاب والهم اللذيذ .
أما
اللعبة الأساسية التى نجح المؤلف فى اختيارها لينسج حولها خيوط
حكايته فقد تمثلت فى اختياره لإحدى أشهر الألعاب الشعبية فى هذا البلد وهى لعب
الورق .. وتحديداً لعبة الـ(( سكمبيل )) .. والتى أتوقع شخصياً أن يأتى اليوم الذى
تضطر فيه ليبيا إلى تنظيم دورى للمحترفين فيها ..!!.
ولعل
الأسلوب فى القصة كان أسلوباً مميزاً يميل إلى الإختصار المرغوب مع تغذيته بقوة
العبارة ودقة التصوير .. غير أنه يقترب فى بعض الفقرات من المقالة وبخاصةٍ فى مطلع
القصة عندما يصف الـ(( مربوعة )) حيث يقول :
-
وكانت المربوعة التى
سبق ذكرها فى حالٍ يستحق الرثاء بالفعل إلى حد أنها كانت مجرد طللٍ دارسٍ يستجدى
من يبكى عليه ويطيل البكاء .. كانت جدراناً أربعة .. ولعل هذا هو الشىء الوحيد
المتكامل فيها .. تحتاج إلى طلاءٍ عاجلٍ وترميمٍ سريعٍ وبعض الآثاث المستعمل ..
ولا مانع من إزالتها بالكامل درءً للشبهات .. وليس هناك ما يمنع أيضاً من المحافظة
عليها احتراماً لمصلحة الآثار .
ويأتى
الكاتب على صورٍ اعتياديةٍ عهدناها فى هذا المجتمع المرتبط بجذور أمته .. مثل
التشاؤم من الأنثى والتفاخر بالذكر..
وهى ماتزال موجودة برغم أنها أقل حدةً من عصورٍ سابقة .. ويستخدم لعبته الأساسية
فى تصوير هذه الناحية على لسان الحاج عثمان .. صاحب الحكمة البليغة واللسان الفصيح
عندما يقول :
-
الولد يا حاج مثل
اللّصْ تماماً .. تمتلكه فى يدك فتضمن (( مطلوعك )) على الأقل .............. ((
إلى أن يقول )) : ... أما البنت يا حاج – لا سمح الله – فهى كورقة التريس .. ما إن
ترفعها حتى يتصبب جبينك عرقاً وتخبئها بعنايةٍ .. وتظل طوال الطرح صامتاً وكأنك
فقدت عزيزاً .. ولا يهنأ لك بالٌ حتى تتخلص منها قبل أن تقع فى قبضة اللّصْ .
وعموماً
.. فالقصة مليئة بالمرارة وبالسخرية التى لا أقول إن الكاتب تعمدها بقدر ما كانت
ضرورةً لبيان القصد الذى هو مُرٌ بطبيعته مثل قوله :
-
وكنت حائراً فى فهم
العلاقة بين الطفلة الغضة التى أنجبتها أمى ليلة البارحة وبين المصيبة التى أنزلها
الله على رأس والدى حباً فيه .
وقوله
:
-
إحتوانى الفراش وبدأ
الدفء يتسلل ومعه الهواجس .. الوسادة كتلةٌ من الهموم .. وكيف ينام من يتوسد
الهموم ؟.
وأعتقد
هنا أن هذا السؤال كان زائداً لأن العبارة التى سبقته كانت كافيةً لآداء الغرض .
وقوله
:
-
الشقة حلمٌ مستحيلٌ
والمهر ترفٌ لا أستطيعه .
وقوله
:
-
أقبل النهار كعادته كل
يومٍ بليداً متثائباً .. يحمل على عاتقه شمساً باردة .............الخ
ووصف
الشمس بالباردة ليس للدلالة على الفصل فقد عرفنا بعد ذلك أن الفصل كان صيفاً عندما
قال : (( نحن فى أغسطس .. وتحت الشمس اللاهبة يذوب كل شىء )) .. وإنما هو للدلالة
ربما على الرتابة المملة للأيام التى تنقضى كما تأتى بدون أملٍ كبير .
ولعل
قوله :
-
كان منزل عبد الباقى
درويش محطتى الأولى .. وجدته مهجوراً من صاحبه فصرت
أضرب فى شوارع مدينتى على غير هدىً .. هى مدينتى بالإسم .. بالبطاقة الشخصية وليست
بالإنتماء .. لكنها مدينتى ولا أحب سواها .
هذا
القول هو ما جعلنا نرجح أن القصة جزء من سيرة المؤلف .. أما المدينة فهى بلا شك
مدينة البيضاء .. ذلك ما كشف عنه فى وصفه وهو يقول :
-
كنا قد وصلنا إلى حدود
المدينة حيث تتقاطع أبنيتها الرمادية مع خضرة الجبل .. ويذوب ضجيجها المعتاد فى
صمت الشجيرات القصيرة وممرات الغابة المتفرعة .
ويستمر
فى الوصف الممزوج بالسخرية المرة حين يقول :
-
هل رأيت يوماً عيون
الحوريات ..؟.. إنها واسعةٌ كذمم المرتشين .. شديدة السواد كحياةٍ مضنية .
وعلى
كل ما تقدم .. فإن هذا النص القصصى كان جامعاً .. فيه الموضوع الذى هو بالطبع ليس
بالجديد .. لكن الجديد والمميز لدى الصديق هو أسلوب تناول الموضوع .. والنسج
والحبكة اللتين نجح القاص فيهما وهو ينسج لنا الحكاية بخيوطٍ أساسها لعبة الـ((
سكمبيل )) .. ثم الزمان والمكان
والشخوص
الذين نعرفهم بملامحهم وعشقهم وهمومهم وطرق عيشهم وكلامهم ورائحة عرقهم أبناءً
لهذا البلد .. وكل ما تخلل الحدث من صورٍ ومشاهد وأحداثٍ فرعية ٍ ووصفٍ مثخنٍ
بالمرارة حتى آخر عبارة عندما يقول منهياً حكايته :
-
وتصب لهيبها الساخن على رأسى المثقل ألماً بتأثير الصداع وهول المفاجأة .. ووجه
فاطمة الوضاء .. والمهر المستحيل .
إرسال تعليق