الرئيسية » , , » امرأة خاصمها القدر - القسم الثامن (( 1 ))

امرأة خاصمها القدر - القسم الثامن (( 1 ))

بقلم : صالح سعد يونس - نشر فى : الثلاثاء، 5 نوفمبر 2013 | الثلاثاء, نوفمبر 05, 2013

(( يا هذا القلب المتعب .. تظاهر أنك بعد لم تتعب ))
الشاعر : مفتاح ميلود 


جلست مريم تحمص القمح على الـ(( سْتوفّا )) الخضراء الجديدة التى اشترتها أمها قبيل مولد ابنتها .. صارت الآن كبيرة .. يمشى بخطىً واثقة بعدما بلغت من العمر سنة وشهرين وقد انسكبت أشعة الشمس الربيعية الدافئة وقت الأصيل على الأسطح الصفيحية المتناثرة .
كانت يمناها تحرك الـ(( قلية )) وبصرها يرنو إلى الطفلة وهى تتراكض بفرح طفولى عارم .. بينما سمعها يلتقط كلمات تلك الـ(( غنّاوة )) المنداحة من فم أمها وهى تضع بين ساقيها الـ(( رحى )) .. يدور جذعها مع دوران الدائرة العلوية فيتناغم صوتها الشجى مع الجعجعة العالية :
-      تحايا دبر اليدين                                اللى قبل بريان يا علم
تتدبر مريم فى الكلمات .. تحاول فك رموزها .. يهزها شعور عميق بالحزن فتتزاحم بعينيها دموع كبيرة .. غزيرة .. حارة .. لكنها تنهض .. تهرب بالمقلتين المحتقنتين إلى المطبخ .. تكفكف القطر وتشطف وجهها الشاحب بالماء البارد .. تطلع رأسها من نافذة المطبخ لتطمئن على الولدين فى الشارع ثم تعود إلى مكانها .
تواصل سدينا الهيام مع وجدها الحزين .. تلثم بين الفينة والأخرى دمعةً لحوح .. تتنحنح بقوة لتطرد بحة تنشب شوكها بعنف فى حلقها .. تتواصل الجعجعة .. يستمر التمايل والنشيج .. تمضغ الرحى حبيبات القلية لتخرجها دقيقاً رمادياً ذا رائحة زكية تجتذب مريم لتتذوق السحالة وهى تقول بصوت عالٍ :
-      سيكون طعمها أفضل لو قللنا من الحلبة ...............
لكن أمها أشارت إليها بأن تتصرف على النحو المناسب دون أن تزعجها .. حينذاك توالت على الباب طرقات خفيفة ثم أطلت فايزة بوجهها القمحى المملوء حيوية وابتسامة عريضة تقبع فوق شفتيها الرقيقتين وقد علق سعيد بثوبها .
جلست والصبى ما زال مصراً على التمسك بطرف الثوب طمعاً فى جزء من اللبان الذى تمضغه .. زجرته مريم لكنه لم يعرها انتباهاً فهى أبداً لم تنهر بعنف أحدهم ولم تمتد يدها إليه ولم ترفض لهم أى طلب .. لهذا السبب فهى وسيلة جيدة لتحقيق الرغبات ولهذا السبب فهم يتعلقون بها أكثر من أمهم ويتجرؤون فى حضرتها على اختراق الممنوع بدافع فضول الطفولة .
إقتطعت فايزة من فمها قطعة ووضعتها فى فمه .. طفحت عيناه بفرح كبير فاستدار ناحية الباب وانطلق .
-      تعالى .. إجلسى هنا وحركى القلية .


قالت لها مريم وهى تهم بدخول المطبخ .. أحضرت صحناً صغيراً وأعدت به بعض الـ(( زّمِّيتة )) فيما فايزة تحرك القمح وترنو بنظرات مستغربة إلى المرأة الحاضرة الغائبة وهى تدور مع رحاها وتدفع بطرف يدها الصغيرة وهى تناوش للحصول على بعض النخالة اللذيذة . 

إرسال تعليق