الرئيسية » , » جبرا إبراهيم جبرا وعرقه وبداياته من حرف الياء

جبرا إبراهيم جبرا وعرقه وبداياته من حرف الياء

بقلم : صالح سعد يونس - نشر فى : الخميس، 21 مارس 2024 | الخميس, مارس 21, 2024

 


جبرا إبراهيم جبرا

عرق وبدايات من حرف الياء .. في طبعتها الخامسة 1989 لجبرا إبراهيم جبرا .. والتى تضم فيما تضم اثنتا عشرة قصةً قصيرةً كتبت خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرون .. فيما عدا قصةً واحدةً كتبت قبل عام 1946 .

تبدأ تلك المجموعة بدراسةٍ ومقدمةٍ لـ(( توفيق صايغ )) بعنوان (( عبر الأرض البوار )) والتى يقول فيها : (( هذه القصص في نظرى لا تقوم على الحادث أو الشخص أو الحوار بقدر ما تقوم على الرموز والإيحاءات ............................. كما يفعل الشعراء في قصائدهم ) .. ولعل أبرز هذه الرموز كما سيكتشفها القارىء بالفعل هى المدينة التى تظهر دائماً كشىءٍ مقيتٍ ! .

بداية المجموعة مع قصة (( عرق )) وهى قصةٌ رائعةٌ كتبت بأسلوبٍ يدل على تمكن الكاتب من أدواته الإبداعية ومقدرته على استعمالها بشكلٍ محترفٍ .. وهى قصةٌ تصف ببساطةٍ حال الفقر والبؤس الذى يسود مجتمع المدينة حتى أن " مصطفى " المولعُ بالقراءةِ وكتابةِ الشعر يفقد في النهاية حبيبته " أميمة " التى يخطبها صديقه القديم " خليل الصفافيرى " بعد أن صار يشتغل بالتجارة مع والدها .

هذه المدينة لا يبدو فيها أى شىءٍ جميلٍ .. فكل ما فيها قبحٌ وعهرٌ .. والكاتب لم يهتم كثيراً بإبراز معالمها وملامحها فهو غير مهتم بالوصف قدر اهتمامه بالشخوص الذين يتقنون فن الثرثرة أكثر من أى شىءٍ آخر .. وإن كنت أتفق مع توفيق صايغ في قوله إن إبراهيم جبرا لا يستطيع صرف المدينة عن ذهنه إلا أننى أختلف معه حول نظرته بأن قصص جبرا لا تقوم على الحادث أو الشخص أو الحوار .. فهى كما نلاحظ قصصٌ مثخنةٌ بالحوارات .. بل وفى كثيرٍ من الأحيان حواراتٌ فلسفيةٌ عميقةٌ وهو ما يجعلنى أيضاً أتفق مع صايغ بأنها قصصٌ تقوم على الرموز والإيحاءات .

وعلى الرغم من ورود أسماء لأماكن إلا أن هذه المدينة تظل غامضةً بتعمدٍ وكأن الكاتب إنما أراد منها إظهار الجانب المظلم الذى يسوده الفقر والعوز وتنتشر فيه الرذيلة بكل أنواعها .

ويجد مصطفى نفسه في النهاية ينهال بالضرب على صديقه " عباس " الذى كان يقذف بالحقيقة المرة في وجهه ويكررها .. ثم يعود إلى ذلك المقهى ليجمع كتبه التى داسها الرائحون والغادون بعد أن سقطت على الأرض أثناء شجاره مع عباس ليلتقطها واحداً واحداً ثم ليخرج منه إلى الليل والشارع الطويل


 

ثم نشتم الفقر والبؤس ونرى الثياب المرقعة والأقدام الحافية في قصة (( المغنون في الظلال )) .. وهى قصةٌ كتبت بأسلوبٍ واقعىٍ عميقٍ ومكثفٍ يظهر الكاتب من خلاله مدى تمكنه من السرد والتصوير المدهش .

فالطفل " سلوم " الذى مل من تناول العدس ومنى نفسه بقطعةٍ من اللحم يجد نفسه بعد ما أكل الرجال ثم جلست النساء يأكلن ويدفعن بالصبية الذين كانوا يحاولون الحصول على بضع لقيماتٍ يجلس عند العين يبلل بالماء كسرة خبزٍ يابسٍ أخذها معه من البيت قبل أن يخرج ويأكلها عوضاً عن اللحم ! .

غير أن هذه القصة لا تجرى أحداثها في المدينة وإنما في البلدة الصغيرة ذات المسارب والشوارع الترابية بيد أنها (( أى المدينة )) حاضرةً في ذاكرة سلوم عندما زارها مرةً صحبة أبيه ليشاهد أبنيتها العالية التى تعلو الباعة الصائحين والجالسين .

ولكن المكان هنا أيضاً هو محظ بلدةٍ صغيرةٍ صورها لنا الكاتب بأبنيتها الصغيرة المتباعدة وشوارعها الترابية وأشجار الزيتون الكثيرة التى زرعن منذ أزمانٍ بعيدةٍ جداً .

وفى قصة (( ملتقى الأحلام )) نجد الفنان يضع وجه حبيبته في لوحاته ويخلق الحب في أحلامه يعيش معه بكل أحاسيسه ؟!.

وفى الـ(( نوافذ المغلقة )) لا نجد حقيقةً سوى نافذةٍ واحدةٍ ولكن الكاتب أراد لتلك النافذة التى تطل منها معشوقته " أميرة " أن تكون انعكاساً لنوافذ أخرى تطل منها أميراتٍ أخرياتٍ يعشقهن رجال آخرون .. وكأن الرذيلة أساسها المرأة التى تمثلت في أميرة التى أغوت ذلك الشاب الفقير العاطل حتى أوقعت به ولفته بحبال الشهوة .. وكلما أخرجته من هاويةٍ أوقعت به في أخرى .. فالشاب الذى لم يك يشعر حيال أميرة في البدء بأية مشاعر مما يعرفه المحبون وما كان يريد منها غير إشباع حاجاته الحيوانية يجد نفسه شيئاً فشيئاً مندفعاً في حبها .. ويهيم بها .. ويسهر إذا لم تأت في الموعد .. فيما هى كانت تريد كل شىءٍ من الدنيا .. تريد الخروج من بيت أبيها ومن حيها الفقير .. وتريد الزواج من شخصٍ ثرىٍ يستطيع أن يحقق لها رغباتها التى لا تنته .. وتريد العاشق الذى يطفىء لهيب جسدها المتعطش لحب غزير .

وكالعادة نرى الناس وكأنهم هياكل عظمية وكأنهم أموات .. فقد ماتوا من جوع قلوبهم .. وكأننا نرى صراعاً يتجسد بين ماضٍ عتيقٍ يتمسك بالقيم والمبادىء وتكبله العادات والتقاليد .. وبين حاضرٍ شابٍ يريد الإنطلاق بحريةٍ لا تعترف بقيود .

وبعد لقاءات بين العاشقين في الزوايا المظلمة من الشارع الرئيسى الذى يوصل الحى بالمدينة والذى يكون مزدحماً في النهار مزركشاً بأنواع البضائع يكون مظلماً مقفراً في الليل حتى أطلق عليه العاشقان اسم " شارع الظلام " .

ثم تتطور العلاقة فيخرجا سويةً عدة مراتٍ إلى خارج الحى حيث يمارسان طقوس الحب والإحتكاك الجسدى تارةً في جبل (( برعم )) وتاراتٍ أخرى في كوخ الـ(( كرم )) .. ولكن أميرة في النهاية تعرف أن هذا الشاب لن يستطيع أن يقدم لها غير الحب وهى تريد كل شىء .. فتتزوج من أحد التجار ثم تحاول إغواء عشيقها مجدداً لتمسك بكل شىءٍ في يدها .

وينتهى الأمر بين العاشقين بالفراق .. وتنتهى قصة أميرة بالطلاق .. ويخال العاشق بأن المدينة بجلبتها وضوضائها ترقص وتغنى ولكن ليس في نفسه هو العاشق إلا فراغٌ فسيحٌ تحده فراغاتٌ لا تنته .

وحين نصل إلى (( أصوات الليل )) نرى الفلسفة طاغيةٌ مملوءةٌ حتى الثمالة بالرؤى والهواجس .. وهى قصةٌ كتبت بأسلوب الراوى العليم .. فالأدب والشعر هما سيدا الموقف .. والثورة والشعب هما العنصران اللذان يجب كما يفهم القارىء أن يدور حولهما محور الأدب والفن .

وهذه القصة عبارةٌ عن حواريةٍ طويلةٍ بين عددٍ من الأصدقاء يتعاطون الشعر كما يتعاطون الخمر .. ويحتسون الشاى ويدخنون السجائر وهم يتناقشون حول معنى الشعر والفن وكيف يكون ؟ .. هل لخدمة الشعب أن لخدمة غاياتٍ أقل سمواً .

ثم يأتى " توفيق " البدوى الذى يمقت المدينة ويرى في الصحراء ورمالها وفى حياة البداوة حقيقةً وحيدةً .. ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يستغنى عن المدينة ولهوها ومومساتها .

هنا تجتمع كل المتناقضات في شخوص هؤلاء الأبطال الذين يلتقون حول قصيدةٍ من الشعر ثم يتحول لقاؤهم إلى حواريةٍ طويلةٍ تظهر بجلاءٍ نتن المدينة وعقم سكانها الذين هم مجدداً مجرد هياكل وأشباحٍ بلا أرواح .

أما (( السيول والعنقاء )) فهى قصةٌ عميقة التفاصيل غلب عليها الطابع الفلسفى الذى يحلل ويغوص في تفاصيل الأشياء الدقيقة .. لكن القاسم المشترك هو الفقر المدقع الذى ينخر المجتمع عموماً وفساد الطبع والطباع .. فلا شىء في نظر الكاتب غير الحب يقتات عليه وينظر إليه كزهرةٍ فريدةٍ تنبت وسط كومةٍ من القش .

هنا تظهر رؤى الكاتب وأفكاره وقناعاته الفلسفية من خلال حواراتٍ عميقةٍ وطويلةٍ بينه وبين حبيبته الإنجليزية " شيلا " وأخرى يشترك فيها أصدقاؤه " جون بيترز " و " جين " وغيرهما .. جميعها تدور حول رؤىً متعمقة ولكنها متشائمة بيد أن الكاتب يحاول أن يفضح قبح المجتمع الذى يتفاعل مع ما هو ظاهرٌ ويتجاهل الباطن والجوهر .. فتبدو كل الأشياء الجميلة في حقيقتها تخبىء قبحاً فظيعاً .

وفى (( الرجل الذى يعشق الموسيقى )) نرى تمرد الكاتب على المجتمع وما يسوده من مظاهر القرف متمثلةً في الفساد المجتمعى والإنحطاط الفكرى فضلاً عن الفقر والمرض .. وهى كلها تتجسد في مجتمع المدينة التى طالما كان يمقتها .

والبطل هنا يظهر معبراً بقوةٍ عن كل هذه الحزمة من خلال هجرانه لتجمع البشر رغم اغتنائه وامتلاكه للأموال التى هبطت عليه كالمطر .. فابتنى بيتاً في قمة الجبل بعيداً عن الناس الذين كانوا يراقبونه بغرابةٍ واستغرابٍ .. ولكن ما الذى فعله ذلك الرجل الذى يمتلك آلافاً من الإسطوانات الموسيقية ويعشق الموسيقى حتى النخاع ؟!.

جل ما فعله هو أن قضى حياته وكأنه مسكونٌ بجنىٍ غريب الأطوار .. فهو لا يفعل شيئاً سوى الإستماع للموسيقى التى كانت تصل إلى سكان القرية في الأسفل بعد أن ركب عدداً من مكبرات الصوت في ذلك السفح .

فلما صمت صوت الموسيقى وانطفأت الأنوار أثار ذلك استغراب الأهالى فقرروا الصعود لتبين الأمر فوجدوه قد رمى بنفسه أسفل الوادى بعد أن مزق كل ما جمعه من أوراقٍ نقديةٍ ؟!.

ويختم الكاتب مجموعته بقصة (( بدايات من حرف الياء )) وكل ما أستطيع قوله هو أنها قصةٌ غامضةُ جداً .. مثيرةٌ للجدل جداً جداً !! .

---------------------------------------------------------------------------------------------------------


صالح سعد يونس
كاتب وأديب ليبى
مؤسس الموقع
| يمكنك متابعتي على: | |
---------------------------------------------------------------------------------------------------------

+ آراء وانطباعات + 5 آراء وانطباعات

22 مارس 2024 في 9:14 م

ربى يعطيك الصحة مشكور جدا على الموضوع الجميل والمجهود الرائع

23 مارس 2024 في 9:25 م

بالتوفيق

24 مارس 2024 في 9:18 م

رؤؤؤؤؤؤؤعاتك

26 مارس 2024 في 9:13 م

ما شاء الله جميل

28 مارس 2024 في 9:04 م

بالتوفيق
حلؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤ

إرسال تعليق