الرئيسية » , , » امرأة خاصمها القدر - القسم الثانى عشر (( 2 ))

امرأة خاصمها القدر - القسم الثانى عشر (( 2 ))

بقلم : صالح سعد يونس - نشر فى : الاثنين، 8 يونيو 2015 | الاثنين, يونيو 08, 2015

ثلاثة شهور مرت الآن فلم تعد مريم بالقادرة على مواصلة طقوس الصبر واحتمال الفراق أكثر من ذلك .. صارت تعانى وحدة ووحشة مذ رحلت صديقتها فايزة .. ولم ترها منذ ذلك الحين ولكنها أرسلت إليها بسلام مرتين .. مرة حين زارتهم خديجة زوجة مراجع حيث أخبرتها بأن ناجية وابنتها زارتاها قبل أيام ومرة عندما التقتهما سدينا خارجتين من زيارة لجارة لهما بالمستشفى .
والآن وبعد رحيل أخويها أضحت تعيش وحدة حقيقية إذ لم يكونا مجرد أخوين لها بل كانا بمثابة ابنين فهى من رعتهما وسهرت عليهما فلا ينامان إلا فى حضنها .. وهى التى أفرطت فى دلالهما حباً وخوفاً من أن تغضب زوج أمها .. وهما كذلك كانا يعتبرانها أماً لا أختاً .. يطلبان ما يريدانه منها .. يشكوان إليها ويتحدثان معها أكثر من حديثهما مع أمهما .
أمست حياة مريم وأمها حياة باهتة لا طعم لها ولا لون .. كل شىء بات مؤلماً مقيتاً وكل أركان البيت تحولت إلى شريط يعرض الذكريات الحلوة .. كانت عندما ترى دفتراً قديماً ممزقاً لسعد تبكى .. وحين يختنق القلب فى صدرها حنيناً تبحث عن قطعة من ثيابهما ولكن لم يكن لديها من آثارهما شىء سوى حذاء ممزق لسعد ودفتر وسروال من الصوف لسعيد .. لكنها كانت تشم ذكرياتهما وتبكى وترنو إلى حيث كانا ينامان ويلعبان وتنشج .
أما سدينا فقد كانت فى الواقع أكثر صبراً وبأساً .. تحبس الدمع بعينيها وتكبل الأشواق بشقوق القلب الممزق .. تلهى نفسها بالعمل وبالذهاب إلى الجارات أو تجلس فى عتبات الليل تمشط شعرها مرة ومرتين بعد أن كانت بالكاد تمشطه مرة كل بضعة أيام !! .
ولكن حينما تخلو إلى نفسها تسلم نفسها للحزن وتطلق سراح القطر ليتناثر بصمت على وسادتها .
ترددت مريم كثيراً فيما سبق لكنها اليوم اتخذت قرارها .. كانت والدتها كلما فاتحتها بالأمر صدت وأغلقت الحديث بمفتاح صدىء وكلما طلبت منها أن ترسل فى طلب الصبيين ولو فى عطلة نهاية الأسبوع ترفض .. بشدة كانت ترفض وأحياناً كانت تخرج عن طورها وتزعق فى وجه البنت .. الصغيرة ناجية كانت أيضاً تبكى .. لا تدرى لماذا تبكى ولكنها كانت تتذكرهما فتبكى .. تستيقظ من نومها فتتذكرهما ولا تكف عن السؤال عنهما فتجيبها مريم بأنهما فى المدرسة وسيأتيان غداً .. لكن هذا الغد لم يأت فكرهت المدرسة وتصورتها مثل عجوز شديدة القبح تمسك بيدها عصاً غليظة وتحبس الأولاد كيلا يروا أهلهم .
مريم اليوم قررت وأخبرت أمها وهما تتناولان الغداء بأنها ستذهب إلى بيت سيدها .. زمت سدينا شفتيها ولم تنبس ببنت شفة .. وعلى عجل غسلت مريم الصحون ورشفت كوب الشاى ثم بدلت ثياب ناجية وسرحت لها شعرها وحملتها وانطلقت .
لم تك تعرف موقع البيت لكنها على الأقل تعرف الحى الذى يسكن فيه سيدها .. إنه حى الكاوة حيث يوجد مقام سيدى رافع فهل من أحد لا يعرفه ؟!! .
ظلت تسير مع شارع عمر المختار غرباً تحمل أختها حيناً وتنزلها وتقودها من يدها الصغيرة الدافئة حيناً .
كان الجو دافئاً أيضاً فالسماء زرقاء صافية يتوسطها قرص متوهج وتمر بها نتف صغيرة متباعدة من السحب البيضاء فيما اكتست الأشجار بأوراق خضراء نضرة وغردت العصيفرات البرية وهى تتنقل بين الأغصان .
كانت ترتدى فستاناً قطنياً بنياً اشترته لها أمها فى عيد الفطر وتجر فى قدميها (( سباطاً )) جلدياً أسود وتعصب فوق رأسها محرمة سوداء ذات ورود كبيرة حمراء وزهرية .
كان قلبها يدق بقوة وأنفاسها تعلو وتهبط بشدة .. وكلما اقتربت كلما ازداد الرعش بمفاصلها .
لم تجد صعوبة فى البحث عن المنزل فقد وجدت حين دخلت الشارع الكبير المفضى إلى محطة الـ(( نور )) شيخاً يجلس على كرسى خشبى أمام دكانة صغيرة للبقوليات .. سألته فدلها .. قال لها وهو يضع يمناه على جبهته اتقاء لأشعة الشمس :
-      هذا الشارع الذى يقابلنى .. على يدك اليمنى آخر بيت إلا واحداً .
ترددت خطاها وهى تسير صوب المسكن البنى ذا الشبابيك المطلية بالدهان الأزرق .. وقفت قبالة الباب .. شحذت لرئتيها الأنفاس ورفعت يدها تدق الباب بارتعاش .. وجيب فؤادها أضحى كالدفوف والريق فى فمها جف والهواجس تعصف برأسها لكن .........................
فتح الباب .. أطل الأسطى بهيكله الضخم وكرشه المندلق أمامه .. تهلل وجهه وهو يباصر البنتين .. احتضن مريم بقوة وهو يقبلها فى خدها .. طأطأ على الصغيرة التى تمسكت بقوة بفستان أختها .. أدخلهما وهو ينادى على زوجته .. قفزت كريمة حالما رأتهما مرحبة .. لم رتهما قبلاً لكنها على الفور عرفتهما .. من حديث الأسطى عن مريم ووصفه لها عرفتها .. نهض الصبيين الذين كانا يستذكران دروسهما فرحين فبركت مريم على
ركبتيها وهى تقبلهما وتحتضنهما بقوة وشوق عاصف .
الجبالى ظل واقفاً حتى انتهت مراسم اللقاء الكبير .. سلم عليها بحرارة .. فرحت واطمأن قلبها عندما رأت العجوز متربعة فوق الطراحية الوسطى بالصالة .
كان يوماً مشهوداً فى حياة مريم بكل تأكيد .. إبتردت أشواقها وهدأ حنينها بعد طول انتظار والقلق والتوجس انزلقا من فؤادها ليمتلىء بالفرح والحبور .. لقد كانوا كرماء معها طيبين بشوشين حتى أنها عقدت العزم على تكرار الزيارة كلما عن لها ذلك بلا حرج ولا خوف .

الأسطى لم يخرج ذلك المساء .. وزوجته كومت أمام ضيفتها كل ما لديها من كعك وحلوى وعصير .. ثم أعدت لها عصيدة بالزبدة الوطنية .. وحين قررت مريم العودة حملتها قفة ملأتها ببعض ما جادت به من أكل ولباس ورداء هدية لأمها فيما أصر الأسطى محمد على اكتراء سيارة وتوصيلها حتى عتبة البيت . 
--------------------------------------------------------------------------

صالح سعد يونس
كاتب وباحث وإعلامى
مؤسس الموقع
| يمكنك متابعتي على: | | | | .
---------------------------------------------------------------------------

إرسال تعليق