البسبوسة

بقلم : صالح سعد يونس - نشر فى : الخميس، 20 نوفمبر 2014 | الخميس, نوفمبر 20, 2014

( 1 )
تلك البنية الصغيرة .. ذات الأعوام الأربعة بوجهها المدور اللطيف وشعرها البنى الناعم وعينيها المتمردتين الصغيرتين .. وفمها الذى تستقر فوقه ضحكةُ لا تكاد تفارقه .. تبدو أكبر من سنها بشغبها الذى لا يهدأ وصراخها الذى لا ينقطع وطلباتها التى لا ترد أمام عناد مستديم .
هى الوحيدة بين إخوتها وأخواتها التى لم أك أخشى عليها من أطفال الشارع الأشقياء .. فقد كانت شجاعة إلى حد يجعلها لا تنس ولا تغفل عن أحد ضربها حتى تردها له ولو بعد حين .. وعنيدة بحيث تجبرنا دائماً على أخذها بالحيلة دون سواها .. وذكية إلى درجة تجعلها قادرة على خداع أمها وجدتها ! .

( 2 )
ذلك المساء دخلت على أمها فى المطبخ وطلبت منها بلهجة وادعة أن تعد لها ولإخوتها (( طاجين بسبوسة )) .
زجرتها أمها مرة ومرات .. وحين لم يفد الزجر أخبرتها بأنها لا تملك بيضاً .. حكت الصغيرة رأسها وعادت إلى الصالة تستكمل حلقة المصارعة مع أخويها دون أن تغفل عن جدتها التى كانت تصلى العصر .
فرغت الجدة من صلاتها .. ركضت مسرعة وقفزت على ظهرها .. كادت العجوز أن تسقط .. أمسكت بيديها الصغيرتين وهى تطلب منها النزول بيد أنها طوحت بيديها وصالبتهما بقوة حول رقبة جدتها وهى تقول مفاوضة :
-        لن أنزل حتى تقولى لأمى .
-        وماذا أقول لأمك ؟! .
-        قولى لها أن تعد لنا بسبوسة .
-        تلك هى فى المطبخ .. لماذا لم تطلبى منها ؟ .
-        طلبت ولكنها قالت ما عندناش دحى[1] .
بقوة فكت العجوز اليدين الصغيرتين فانزلقت الشقية فى حجرها وهى تتضاحك .. قبلتها الجدة وهى تقول مداعبة :
-        عندما يعود أبوك قولى له .
-        لا لا .. بابا يتأخر ويأتى فى الليل .
دفعتها بهدوء ونهضت بينما البنت أمست تتمرغ على السجادة وهى تصيح بصوتها العالى المزعج .
( 3 )
لم تفد الخطة الثالثة كذلك فالجدة فتحت الراديو وبدأت تتنقل بين محطاته بحثاً عن أخبار مطمئنة حول معارك مصراتة والزنتان مع كتائب القذافى .. فى حين كانت الأم منشغلة بإعادة ترتيب المطبخ فشهر رمضان قد بات يطرق الأبواب ولابد من حملة شاملة على البيت بأكمله .
هى وحدها تبكى وتصرخ بلا فائدة فيما إخوتها يواصلون لعبهم دون أن ينسوا بين فينة وأخرى أن يغيضوها ببعض الحركات فتزيد من حدة البكاء وتهددهم بأنها لن تعطيهم من البسبوسة !! .
( 4 )
نامت مريم بأهداب مبللةٍ .. إنتبهت الوالدة إلى انقطاع الصوت فخرجت لتتفقدها .. وحين انحنت لتحملها إلى الفراش استيقظت وزرعت فى عينيها نظرة عتاب .. تحسست عينيها المملوءتين بالدمع .. مسحتهما .. دفعت أمها وأدارت جسدها الصغير وحين تركتها وانصرفت ذهبت إلى جدتها وارتمت فى حضنها وهى ترجوها تارة .. وتزعجها بتغيير مؤشر الراديو تارات أخرى أن تعطيها ديناراً لتشترى بيضاً .. لكن العجوز أقسمت لها بالله ثم بسيدى رافع[2] بأنها لم تعد تملك قرشاً واحداً .
( 5 )
حكت مريومة رأسها .. لم تعجبها إجابة الجدة ولم يرق لها أن تنتظر قدوم الوالد وهى تعلم أنه سيأتى فى الليل .. نهضت راكضة إلى المطبخ .. بلهجة هادئة نادت أمها بإصرار وهى تقف عند الباب :
-        ماما .. ماما .. ماما .. مامـ
-        ...............................
ردت الأم أخيراً فى غير مبالاة وهى تمسح زجاج الدولاب بعد أن أعادت ترتيب الصحون والفناجين والأكواب وزينت أرفف الدولاب بمفارش جديدة :
-        نعم يا حبيبتى .
-        نبى نص دحى .
-        ما فيش يا ماما دحى .. نعطيك جبنة ؟ .
-        لا لا .. نبـّ
-        حاضر حاضر .. دعينى أكمل هذا أولاً .
( 6 )
أرسلت الأم ولدها الأكبر ذا العشر سنوات إلى الدكان القريب ولكن الصغيرة أصرت على مرافقته .. رفضت الوالدة وأغلقت الباب .. لكن الشقية تسللت وفتحت الباب بهدوء ثم انطلقت سريعاً وهى تجرى بفرحٍ كبيرٍ والدموع تتقافز من مقلتيها .
عادا من الدكان .. كانت مريم هى من يحمل الكيس الصغير الذى يحوى خمس بيضات .. وهى أيضاً التى انتقتها بنفسها .
مدت الكيس الوردى لأمها وهى تقول مبتسمة :
-        جبنا لك دحى .. ديرى لنا بسبوسة ! .
البيضاء – ليبيا
2013.1.8



[1] الدحى : جمع دحية وهى البيضة .
[2] هو الصحابى الجليل رافع بن ثابت الأنصارى .. يوجد ضريحه بمدينة البيضاء .

+ آراء وانطباعات + 1 آراء وانطباعات

غير معرف
3 ديسمبر 2014 في 5:24 م

ما شدنى فى هذه القصة وفى قصصك بصفة عامة هى أنك تكتب بأسلوب رائع وسهل وتجيد وصف الأحداث بدقة عالية ووصف البيئة واختيار الحوارات المناسبة لشخصياتك .

إرسال تعليق