(1)
أحس بالخدر يتدفق فى مفاصل جسده
بعد أن ملأ معدته بوجبة الغداء .. كان يدخن سيجارته وهو يسند جسمه إلى جذع الخروبة
الكبيرة .. جفناه ثقيلان .. ينظر بصعوبة إلى القطيع المنتشر فى بقايا القصلاية .
رمى بعقب اللفافة فوق الجمر
المدثر بغطاء أبيض .. أطال النظر إليه وهو يتقلص ويحترق .. تنهد بعمق .. حرك شنته
إلى ما تحت الحاجبين .. أغمض عينيه .. بدأ النبض يتسارع فى حنايا قلبه .. حرك رأسه
بتثاقل فشاهد العنز الحواء تأخذ طرفاً قصياً باتجاه الغابة :
-
لن أهنأ بنومتى ما دمت طليقة .
حدث نفسه وهو ينهض متناولاً من
الجراب المعلق فى بقايا غصن فوق رأسه كسرة من الخبز .
جر قدميه باتجاه تلك الشقية ..
إقترب منها .. مد يده فأسرعت نحوه تقضم الخبز اللذيذ
متناسية أنها الحيلة نفسها تتكرر كلما أراد الإيقاع بها ! .
(2)
فى أعلى الجبل كان الذئب يرصد الموقف وهو يقتعد صخرةً تشرف على كل
شىء .. يضع رأسه حيناً فوق قائمتيه الممدودتين .. وينهض أحياناً أخرى ليقعى ويترقب
بصبر عجيب .. فى حين أحسن الكلب استغلال فرصة غفلة سيده وراح يتسكع خلف التلة
الغربية مطارداً الأرانب والجرابيع .
(3)
العنز السوداء التى تتزين قوائمها بأطواقٍ بيضٍ ويجلس بين قرنيها
تاجٌ من الشعر اللامع لم تك لتضيع الفرصة فى تولى زمام القيادة .. قفزت فوق الـ(
صّنب ) الذى ينهض عند طرف الـ( غوط ) وحدقت فى القطيع .. صاحت بأعلى صوتها :
-
ماااااااااا .. مااااااااااااا
التيس الأبيض الذى يتزين بقرنين كبيرين ضخمين متعرجين أشاح بنظراته
وراح يحك قرنيه على جذع شجرة العرعار القريبة وهو يعطس كما العادة .. بينما كانت العنز الشارف تستظل تحت الصخرة الكبيرة وهى تجتر وريقات البطوم .
(4)
تحت الخروبة كانت الحواء الموثوقة إلى الجذع بحبل من الليف تشد جسدها
بعنف وهى تسب تلك الشقية التى تحاول شق وحدة القطيع .. وتلعن راعيها الذى يشخر
بقربها ويحك كرشه المندلق .. بينما تواصل العنز السوداء خطبتها فيما التيس ينطح
جذع الـ( شعراية ) ويعطس :
-
هكذا أنت وستظل .. لا تحسن غير
البلبلة والعطس ونشر الروائح الكريهة .
-
ماااااااااااا
علقت العنز الشارف من تحت الحجر
الضخم مواصلة بلا اهتمام اجترار البطوم :
-
وأنتِ .. أصبحتِ جسداً عفناً
ينخره الدود ويسكنه البرغوث .
(5)
فى السفح أيضاً كان الغراب يرقب صغاره التى تحلق وتستعرض مهاراتها
وهو يقف قرب الـ( سقّال ) المركوز فى أعلى الصنوبرة .. نعقت زوجته بفرحٍ وارتياحٍ كبيرين وهى تنظر إلى أحب
أبنائها .. قال الغراب :
-
لقد أصبح أفضل إخوته وأمهرهم
وريشاته البيض تكاد تختفى .
-
الحمد لله .. كل يوم اسود من
قبل ! .[1]
(6)
كانت العنز الحواء تجتهد وتشد وتصيح ناظرةً إلى ما بقى من
القطيع فى الغوط .. لكن الراعى كان مستغرقاً فى نومه يهش بتكاسل ذبابةً لئيمة .
الصخرة التى تشرف على كل شىءٍ بدت عارية .. لا شىء فوقها سوى بقايا
رائحة الذئب .
الغربان فى الأعلى أطلقت غاقات طويلةٍ فاحتشد السواد فى الأفق .
الكلب عاد لتوه لاهثاً بعد أن أعياه التعب .
العنز الشارف نهضت من تحت الصنب وهى تهز رأسها فتصطفق أذناها المتهدلتان متجهةً بخطوات واهنةٍ إلى القصلاية .
(7)
فى عمق الغابة كانت الأصوات
تختلط وتتداخل .. ثغاء .. عواء .. نعيق .. ركض .. لهاث .. أشياء تتكسر .. وأخرى تتناثر .
لم يستطع الراعى بعد أن يقاوم لذة الخدر والنعاس .. لكنه على الأقل
تعلم أن يربط إحدى قوائم عنزه الحواء بمعصمه بدلاً من أن يوثقها إلى الجذع .
البيضاء
– ليبيا
2016.1.3
--------------------------------------------------------------------------
---------------------------------------------------------------------------
تعليقات الفيس بوك :
+ آراء وانطباعات + 3 آراء وانطباعات
قوية وأكثر من رائعة وتعبر عن واقع مر , تمنياتى لك بالتوفيق أستاذى الفاضل
هذا واقعنا للأسف !
عندما يغيب الراعى فتلك فرصة لا تعوض بالنسبة للذئاب والضوارى
إرسال تعليق