الرئيسية » , » عمى التاورغى

عمى التاورغى

بقلم : صالح سعد يونس - نشر فى : الخميس، 22 يونيو 2017 | الخميس, يونيو 22, 2017

(1)
اليوم تخرج القرية فى موكب مهيبٍ مشيعةً جثمان ذلك الكهل الخمسينى بجسده النحيف الذى برزت عظامه وبشرته السوداء التى أرهقها الحزن والهم ولحية وجهه التى غزاها الشيب بلا رحمة .
لم يعد للمدرسة بعد الآن خفيرٌ يحرسها وينظف فصولها ويعتنى بساحتها وبسقاية ورودها .. ولن يتسابق التلاميذ إلى المدرسة للحصول على حلوى عمى التاورغى التى كان كل مساء يشتريها من دكان الحاج مسعود .. ولن يجدوا من يلاطفهم فى استراحة الفطور ويشاركهم ألعابهم ويروى لهم القصص والحكايات .

(2)
قبل سنتين .. وذات صباحٍ شاتٍ ممطرٍ شديد البرودة .. وجد الأستاذ عبد اللطيف مدير المدرسة رجلاً مكوماً أمام باب المدرسة يرتعش تحت بطانيةٍ مبللة .. كان كهلاً ضعيفاً نحيفاً لا يقوى على الحركة .. إنتشله المدير بصعوبةٍ وأدخله إلى حجرة المعلمين .. وعلى عجلٍ أوقد النار فى كانون الفحم ووضع فوقه براد الشاى الأحمر .
فتح نافذة الغرفة وأغلق الزجاج وهو يقول :
- الضى الخارب من أمس وهو رايح ! .
لكن الرجل لم يرد وظل يرتجف فوق الكرسى الخشبى فأسرع الأستاذ ليحضر الكانون ويضعه أمام ضيفه .
بدأ التلاميذ يتوافدون .. وكان الأستاذ صالح أول الواصلين من المعلمين .. تلاه وصول الأستاذين حسين وخالد .. الأول كان طيباً حد الدروشة بينما يمتاز الأستاذ خالد بالحذر الزائد والريبة فى كل شىء .
لم يستطيعوا أن يحصلوا من الكهل على معلوماتٍ شافيةٍ غير أن الأستاذ خالد انفرد بمديره وأشار عليه بضرورة إبلاغ مركز الشرطة حتى يخلى مسؤوليته .

(3)
إنتهت الأمور إذن بإطلاق سراح الرجل بعد أن تأكدت الشرطة أنه ليس سوى رجل ضعيف قدم نازحاً من تاورغاء وفقد زوجته وكل عياله .
وبمساعى المعلمين ومدير المدرسة تم تعيين موسى احْمَيْد خفيراً للمدرسة .. وأعطاه الأستاذ عبد اللطيف غرفة الخفير الملاصقة لباب المدرسة والتى ظلت مغلقةً لسنوات .. وتظافرت جهود المعلمين وجمعوا من سكان القرية بعض التبرعات ففرشوا له الحجرة واشتروا له مدفأةً وتلفزيوناً وبطانيتين .
وكان أهل القرية يكرمونه ويعطونه مما تجود به أيديهم من فحمٍ وطعام .. أما الحاجة قسامى التى يقع بيتها قبالة باب المدرسة تماماً فكانت ترسل له كل يومٍ رغيفاً من خبز التنور .. بينما ظل المعلمون يجتمعون عنده كل ليلةٍ تقريباً يتسامرون ويلعبون الورق .
وفى كل مساءٍ كان يذهب إلى دكان الحاج مسعود .. يمضى معه بعض الوقت ويشترى منه كيسين من الحلوى ليستقبل بها فى الصباح التالى الأطفال الذين كانوا يهرولون ويتسابقون إلى المدرسة ليحصلوا على نصيبهم من الحلوى اللذيذة .
(4)
ذات مساءٍ أولم الأستاذ حسين وذبح ثنياً من خيرة شياهه ودعا المعلمين وبعضاً من سكان القرية على شرف سي موسى التاروغى .
فى تلك الليلة ضغط الأستاذ حسين على الرجل ليروى لهم تفاصيل حياته التى صاروا متشوقين جداً لمعرفتها .
-شن نحكى لكم يا أولاد ؟.. نحكى لكم على مدينتى اللى دمروها وإلا على حوشانّا اللى هدموها فوق روسنا ؟.. نحكى لكم على الناس اللى قتلوهم وإلا على الشيابين والنساوين والصغار اللى هجروهم ؟.. البلاد راحت والدم سال والسلاح انتشر.....................
-قول خير يا سى موسى .. البلاد مازال فيها رجال والبركة مازالت .
قال الأستاذ صالح بينما هز الأستاذ عبد اللطيف رأسه موافقاً :
-أما بركة ؟!.. الأخ يذبح فى خوه والمسلم يكبّر على المسلم !.. خدوا الناس بجريرة غيرهم .. شنوا ذنبهم وشنوا ذنبى أنىْ وصغارى يطلعونا من حوشنا ويقتلوا ولدى ؟!.
تراكمت الدموع فى عينى الأستاذ حسين .. تدخل الأستاذ عبد اللطيف :
-خلاص يا سى موسى إن كان الكلام يضايقك نغيروا الموضوع .. (( إستدرك موجهاً كلامه للأستاذ صالح )) .. ما فيش أخبار على المرتبات ؟.
- يييه يييه .. والله نايضة لا فلوس ولا غاز ولا ضى ولا بنزينة .. نحن ما زلنا فى خير على الأقل نرموا فى خبزتنا فى التنانير وندّفّوا على الكوانين .. اسم الله على هل المدينة مساكين قطعوا بلا بارود !.
-قالوا فى بنية توفت اليوم م الصقع ؟.
نبر الحاج مسعود .. رد الأستاذ عبد اللطيف :
-ربى يلطف بالحال .
حينذاك شد التاورغى طرف الوشاح الصوفى الذى أهداه له الحاج مسعود ليمسح دموعاً انزلقت على وجهه الذى برزت عظامه .
تدخل الأستاذ حسين قائلاً وهو يسكب للرجل كوباً من الماء : 
-سامحنا يا سى مصطفى ذكّرناك بمواجع .
تناول الأخير كأس الماء بيدٍ مرتجفة .. أردف بعد لحظات فاتحاً فمه بتنهيدةٍ طويلة :
-ذكّرتونى ببنتى اللى حرقتها النار .
شد طرف الـ(( لثّامية )) على خده الأيسر .. تحسس أثر النار على جلده وبدأ يسرد حكايته .
(5)
-كنا عايشين فى أمان الله .. فقراء زينا زى كل الناس .. تعبانين بس نرقدوا مطمنين .. سمعنا الناس يقولوا تورة تورة .. سوا كنا مع التورة وإلا ضدها حنىْ فى النهاية قاعدين فى مدينتنا وحوشانّا .
هجموا علينا الـ(( توار )) وخدونا بجريرة غيرنا .. طلعونا وقالوا انتوا خاينين .. علاش بالله ؟!.. قتلوا ولدى الكبير قدام عيونى .. ما قدرش يتحمل إهانتهم وضربهم لى ولأمه وهم ناس لغتهم السلاح .
أنىْ والمرا والصغار لقينا أرواحنا فى سرت بس أولاد الناس قالوا لنا أمشوا لبنغازى خير .. سرت ما هيش آمنة .
المهم امشينا لبنغازى وقعدنا فى مخيم .. والحق ما فيش حد قصر من الناس ومن الشباب الطيبين اللى كانوا يجيبوا لنا فى الماكلة والغطية .. لكن بصراحة كنا ننهانوا .. مرة مرة يهجموا علينا الملشيات ويفتشوا فينا ويضربوا ويسبّوا .. وبعدين فرحونا وقالوا بنديرولكم حل .. بنوزعوكم كل خمس مية واحد فى مكان .. توّا بالله عليكم هدا كلام يصير منا ؟!.. وينها التورة ووين دولة العدالة والقانون ووين العقال ؟!.
مرة مرة كانوا الملشيات يدزوا لنا فى قذيقة عشوائية .. ومرات يطيحوا علينا فى الضى .. ومرات يهجموا علينا ويعتقلوا .
هديك الليلة طاحت علينا قذائف .. وحدة منهم طاحت على دارى ودار جارى .. المرا وولادى الإثنين ماتوا على طول .. وأنىْ وبنتى الصغيرة طاح علينا السقف وحرقتنا النار .
بعد أيام ماتت البنية وأنىْ زى ما أنتم شايفين انحرقت جهتى اليسرى وتميت من شارع لشارع ومن مكان لمكان ومن منطقة لمنطقة .
الحمد لله أنتوا ما زلتوا فى خير .. تردوا فى السلام على بعضكم ومساندين بعضكم وتمشوا وتجوا .. غاديكا اللى تقول له سلام عليكم يقول لك أنت منين ؟!.
(6)
على غير عادته نهض الأستاذ عبد اللطيف مبكرا جداً .. فتح المدرسة .. وضع براد الشاى فوق الكانون .. إتجه إلى غرفة الخفير .. أخرج الكرسى الخشبى وجلس منتظراً وصول التلاميذ .. لكن التلاميذ لم يعودوا يتسابقون إلى المدرسة لأنهم لن يجدوا عمى التاورغى .. ولن يتلذذوا بحلواه أو يستمتعوا بقصصه وحكاياته .
البيضاء ليبيا


2016.3.9
--------------------------------------------------------------------------

صالح سعد يونس
كاتب وباحث
مؤسس الموقع
| يمكنك متابعتي على: | | | |
---------------------------------------------------------------------------

+ آراء وانطباعات + 3 آراء وانطباعات

غير معرف
23 يونيو 2017 في 10:37 م

قصة جميلة جدا ومؤثرة وسرد أكثر من رائع

غير معرف
19 أغسطس 2017 في 4:51 م

قصة جميلة جدا ومؤثرة ووصف واقعى لما مرت وتمر به ليبيا بعد النكبة

27 مارس 2023 في 10:49 م

goooood waaaaaaw

إرسال تعليق